إشراق الاقتباس في كلام العرب

 أحمد بن ناصر الرازحي

ماجستير في النقد الأدبي الحديث


لا شك في تميز القران الكريم بإعجازه المتنوع كيف لا وهو كلام المولى عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وجوانب الإعجاز فيه كثيرة ومتنوعة ولعل أول جوانب الإعجاز فيه الإعجاز البياني لأنه نزل في قوم هم أهل بيان وفصاحة وبلاغة فكان إعجازه من هذا الجانب مثار انبهار مشركي العرب آنذاك لأنهم وجدوا فيه كلاما عجزوا عن إدراك سره مع وضوحه أمامهم حتى قال قائلهم : والله ما هو بكلام بشر و والله إن أعلاه لمورق وان أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه قال هذا القول لأنه سمع تراكيب سهلة واضحة خالية من التعقيد ومن التكلف ومن كل ما يشين إلا أن من العسير محاكاته بل إن له أثرا عجيبا في نفوس السامعين حتى بلغ من خوفهم من تأثيره العجيب أنهم كانوا يسدون آذانهم بالقطن لئلا يسمعوا شيئا منه فيؤثر فيهم إصرارا واستكبارا منهم ورفضا لقبول الحق خشية على المكانة والسيادة ناسين أن السيادة ستكون لهم باتباعه والإيمان به وهكذا شان كل صاحب مكانه فهو يخشى على مكانته من أن يأخذه آخر لبروزه في مجال معين فهو يحقره في المحافل ويستهين به ويقلل من شانه أمام الآخرين لا إنكارا لفضله ولكن حسدا حتى كانوا يكادون أن يزلقوا الرسول صلى الله عليه بأبصارهم حسدا وغيرة قال تعالى " وإن يكاد الذين كفروا ليزقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين" 51 القلم
ومن الأساليب المشرقة في الكلام العربي الاقتباس من القران الكريم وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية أو آيه من آيات كتاب الله تعالى خاصة (1 )، لا علـــــــى أنه منه "(2)ولا يتضمن إشعارا بأنه من القران كأن يقال: قال تعالى ،أو نحوه " بطريقة مدمجة لا استشهادا بها وقد أخذ العرب هذا من أخذ القبس من النار لإشعال نار أخرى بغرض الفائدة قال تعالى على لسان موسى : إذا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " 7 النمل ، واقتبس علماً : استفاده " (3)ويقال جئت لأقتبس من أنوارك وفي التنزيل العزيز : انظرونا نقتبس من نوركم " وقد جعل العرب القرآن نورا وجعلوا ما يؤخذ منه كالقبس الذي يستفاد منه ويستضاء به ، وإذا أمعنا النظر في الاقتباس بكلمة أو كلمات من آية من كتاب الله العزيز ضمن كلام البشر وجدنا نجما ثاقبا ونورا أخاذا يخلب اللب لمن يعرف القرآن ويعلم أنه من كلام الله بل ووجدنا إشعاعا نافذا وبريقا ملحوظا يمتلك الإحساس ويستجلب التفكر ويستولي على استرسال الفكر مقتنصا لحظة الشرود واندياح الهاجس وهذا ملمح من ملامح إعجاز هذا القران الكريم . وإذا تأملنا شيئا مما نظمه شاعر أو كتبه كاتب فيه اقتباس نجد الاقتباس قد أضاء نتاجه وزاده بهجة وألقا وحسَّن كلامه وجعله أدعى للحفظ والوعي من غيره وإن كان ما كتب ضعيفا مهلهلا كان المقتبس فيه كومض قوي ينبعث وسط ظلام حالك
"والاقتباس من القران الكريم على ثلاثة أقسام ، مقبول ومباح ومردود
فالأول : ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك
والثاني ما كان في الغزل والرسائل والقصص 0
والثالث : على ضربين :
أحدهما : ما نسبه الله تعالى إلى نفسه ونعوذ بالله ممن ينقل إلى نفسه ، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية من عماله : " إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم "
والآخر : تضمين آيه كريمة في معنى هزلي ـ ونعوذ بالله من ذلك ـ كقول القائل :
أوحى إلى عشاقه طرفه هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفــه لمثل هذا فليعمل العـاملون
والاقتباس على نوعين :
نوع لا يخرج المقتبس عن معناه كقول الحريري : فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب " فإن الحريري كنى به عن شدة القرب وكذلك هو في الآية الشريفة 0


والنوع الآخر : نوع يخرج به المقتبس عن معناه كقول ابن الرومي :
لئن أخطأت في مدحي ك ما أخطأت في ردي
لقـد أنزلت حاجـــاتي بــــواد غير ذي زرع
فان الشاعر كنى عن الرجل الذي لا يرجى نفعه والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة شرفها الله وعظمها " ويجوز أن يغير لفظ المقتبس منه بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال للظاهر من المضمر أو غير ذلك فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر كقول الشاعر :
كان الذي خفت أن يكونا إنا إلى الله راجعونا
فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله إنا إلى الله ومراده آية التعزية في المصيبة وهي قوله تعالى : " إنا لله وإنا إليه راجعون " والنقصان في مثل ما تقدم من قول الحريري : فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب " فإنه أسقط لفظة هو إذ الآية الكريمة لفظها :" كلمح البصر أو هو أقرب " والتقديم والتأخير كقول الشاعر :
قال لي إن رقيـــــــــبي سيئ الخلق فداره
قلت دعني وجهك الجنـّ ـة حُفّتْ بالمكاره
وهذا مقتبس من الحديث الشريف من قوله صلى الله عليه وسلم : حُفت الجنة بالمكاره"( 4 )0 وقد عدّ علماء البلاغة التضمين من الحديث الشريف اقتباسا أيضا
ولروعة الاقتباس وما يضفيه من بريق على الكلام ولما يكسوه من بديع حلل انتقيت بعضا من كلام العرب شعرا ونثرا لاحتوائه خاصية الاقتباس ، فمن قول الله تعالى في سورة الطارق " إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر " قال الأحوص الأنصاري مقتبسا :
إذا رمت عنها سلوة قـــــــــال شافع من الحب ميعاد السلو المقابر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر
فالأبيات جميلة لكن الاقتباس في الشطر الثاني من البيت الثاني كساها حلة حسن زاهية واضحة وزادها بهجة وروعة
ومن قول الله تعالى : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر "118 آل عمران قال محمد الشجاعي :
لا تعاشر معشرا ضلوا الهدى فسواء أقبلوا أو أدبــروا
بدت البغضاء من أفواهـــــهم والذي يخفون منها أكبر
ومن قول الله تعالى :" فاتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون " 100 المائدة ، ومن قوله تعالى : " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " 53 الأحزاب ، اقتبس عبد الرحمن بن سعيد فقال :
خلة الغانيات خلة سوء فاتقوا الله يا أولى الألبـــاب
وإذا ما سألتموهن شيئا فاسألوهن من وراء حجاب
ومن قول الله تعالى :" يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " 32 التوبة ، اقتبس عمر الخيام فقال :
سبقت العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة
ولا بحكمتي نور الهدى في ليـــــال للضلالة مدلهمة
يريد الجــــــاهلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتــــمه
ومن النثر
من قول الله تعالى في محكم التنزيل في عدد من الآيات المتفرقة على التوالي :
من قوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " 6 النور
وقوله تعالى :" والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " 9 النور
ومن قوله تعالى :" وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون " 51 القلم
ومن قوله سبحانه :" فإذا ذهب الخوف سلقوكم بالسنة حداد " 19 الأحزاب
ومن قوله عز وجل :" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا " 83 الإسراء
ومن قوله جل من قائل :"رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم " 20 محمد 0
ومن قوله تعالى :" فأصبح هشيما تذروه الرياح " 45 الكهف
ومن قوله تعالى :" فعسى ربي أن يؤتين ِخيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبحَ صعيدا زلقا " 40الكهف
ومن قول العزيز الحكيم :" أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا " 41 الكهف
ومن قوله جل من قائل :" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن " 112 الأنعام
ومن قوله تعالى في كتابه الكريم :" وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن " 33 يوسف
ومن قوله تعالى :" إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " 27 الأعراف
من كل الآيات السابقة وجدتُ رسالة بديعة لبشر بن أبي كبار البلوي الصنعاني وجهها إلى إبراهيم بن عبد الله الحجي والي صنعاء لهارون الرشيد : قال فيها : أما بعد فان رأى الأمير ألا يعلم هشاما ما يريد من صلتي فانه لم يردني وال قط بخير ولم يفتح لي باب صلة فتكون منه خالصة لا يريد بها إلا وجه الله ولا يرجو بها إلا ثوابه إلا عرض لها هشام من دونها فثقلها وكرهها أدار القياس فيها وضرب لها الأمثال و ألقى الحيلة فيها إلى الكاتب والحاجب وقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين ومدحني بما لا يسمع به من أخلاقي ، وانتقصني فيما لا يطمع تغيره مني ليكون ما أظهر من المدحة مصدقا لما أسر من الغيبة ثم زخرف ذلك بالموعظة وزينه بالنصيحة ، وقاربه بالمودة و أغراه من ناحية الشفقة وشهد عليه أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن غضب الله عليه إن كان من الكاذبين ، فإذا الحاجب يزلقني ببصره وإذا الكاتب يسلقني بلسانه وإذا الخادم يعرض عني بجانبه وإذا الوالي ينظر في نظر المغشي عليه من الموت فصارت وجوه النفع مردودة و أبواب الطمع مسدودة وأصبح الخير الذي كنت أرجوه هشيما تذروه الرياح والصلة التي كنت أشرفت عليها صعيدا زلقا وأصبح ماؤها غورا فما أستطيع له طلبا و أسال الله الذي جعل لكل نبي عدوا من المجرمين أن يكفيني شره ويصرف عني كيده فإنه يراني هو وقبيله من حيث لا أراهم والسلام " (5) فكما نلاحظ في هذه الرسالة الظريفة كيف استطاع الكاتب الاقتباس من عدة مواضع مضمنا إياها رسالة واحدة وقد أعطت ظاهرةُ الاقتباس الرسالة َ رونقا وزادتها قوة وحينما تتأمل مواضع المقتبس من الآيات تجدها بديعة براقة مؤثرة
ومن قولة تعالى : وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا" الإسراء 53
ومن قوله تعالى :" وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " 95 الأنعام 0
قال الحجاج بن يوسف عندما أرجف الناس بموته : إن طائفة من أهل العراق أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا: ما ت الحجاج ! 0 فمَهْ ! وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت والله ما يسرني ألا أموت وأن لي الدنيا وما فيها ! وما رأيت الله رضي بالتخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس 0(6)
كأني والله بكل حي منكم ميتا وبكل رطب يابسا 0إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول 0
ومن قوله تعالى:" والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس انه لقول رسول كريم " 17 التكوير 0 قال سليمان بن عبد الملك في خطبة له : اعلموا عباد الله أن هذا القران يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس " (7)إذن فنحن أمام ظاهرة لا تمنح الكلام العربي رونقا فحسب و إنما تزيد من ارتباطنا بالإعجاز القرآني من الناحية البيانية وتكشف لنا جانبا مهما من جوانب هذا القران العظيم عند اقترانه بالكلام العادي مهما بلغ ذلك الكلام من الإبداع والروعة فهو لا يقارن بأسلوب القران الكريم الذي يُعتبر أيُ كلام سواه ضدًا له أيًا كان ( والضدُ يُظهِر حسنَه الضدُ ) يقول الباقلاني في كتابة إعجاز القران :" إن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر فتأخذها الأسماع وتتشوف إليها النفوس ويُرى وجهُ رونقها باديًا غامرًا سائرَ ما تقرنُ به كالدرة التي تُرى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد 0
وأنت ترى الكلمة من القرآن يُتمثلُ بها في تضاعيفِ كلامٍ كثير ، وهي غُرةُ جميعِه ، وواسطة عقده ، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله واعتراضه في حسنه ومائه "(8) وهذا الوصف جانب مما أورده أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابة يمثل جانبا من الجوانب الكثيرة التي أوردها من فضائل القران الكريم ومزاياه العديدة التي استطاع الباحثون الإلمام ببعضها والتي خفي الكثير منها مما لم يأت الناسَ من تأويله حتى يتبين لهم أنه الحق 0
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1 / معجم البلاغة العربية - د / بدوي طبانة ص 519 دار المنارة جدة
2/ بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة * عبد المتعال الصعيدي 4:130
3/ المعجم الوسيط 2:710
4/ معجم البلاغة العربية ص 519 / 520
5 / قصة الأدب في اليمن * أحمد بن محمد الشامي ص 294 ط 2 دار العمير للثقافة والنشر جدة 0
6/ المختار من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري * أحمد عبد العليم البردوني ص 195
7/ نفسه ص 197
8 / إعجاز القران * الباقلاني 0 تحقيق / السيد أحمد صقر ص 42 ط 3 دار المعارف بمصر



 

كتبه أحمد بن ناصر الرازحي ، ونشرته مجلة الخفجي** السعودية

Alrazhi2@hotmail.com

موقعي على الإنترنت 

https://alrazhi.tripod.com/

 

 

 

1