النقد الأدبي اليوم

 أحمد بن ناصر الرازحي

ماجستير نقد أدبي حديث

النقد قضية قديمة قدم الإنسان فبه نستطيع تمييز الأشياء ومعرفة الجيد من الرديء في مختلف المجالات،وحين  يغيب  الناقد الماهر تختلط  الأشياء وتتفق  المتناقضات إلى حد كبير وإذا كان النقد قد ارتبط بشكل كبير بالكلام فإنه يصح أن يمارس في كل مناحي الحياة  وهو  يمارس فعلا حتى عند أبسط الناس في كثير من مجريات حياتهم في البيت والسوق والعمل وفي الكثير من الأحوال اليومية للإنسان ، فهو عملية فحص الأشياء ومعرفة صفاتها والتمييز بين جيدها ورديئها والحكم عليها0 صحيح أن الذوق يتدخل أحيانا في هذه العملية ولكن ذلك يعد نوعا من أنواع النقد فلولا الذوق لفسد الكثير مما يمس حياة الإنسان ، والذوق من مُجمّلات الأشياء عند بني البشر ، ولكوني هنا لا أعمم النقد فإنني  أريد أن أتناول جانبا واحدا فقط من جوانب النقد ألا وهو النقد الأدبي ، وحين أكتب عن هذه القضية فأنا لا أريد أن أُنَظِّرَ لـه أو أشرح أساليبه وطرقه فالكثير من علماء الأدب والنقد قد تناولوا هذه القضية وفصّلوا فيها ودرسوا وحللوا الكثير من النصوص الأدبية الشهيرة ليجعلوها مثالا يُحتذى فكانوا أصحاب سبق أدبي لايُنكر ، والدراسات النقدية تختلف من عصر لعصر عند العرب ؛ فمؤرخو النقد يشيرون إلى أنّ النقد في العصر الجاهلي كان تأثريّا آنيّا يعتمد على الذوق الفطري ، ويتضمن أحكاما جريئة وتعميمات ومبالغات كثيرة وليست لـه قواعد محددة ، وفي عصر صدر الإسلام ظهرت أحكام نقدية فيها شيء من التدقيق والتعليل تهتم بالصدق والقيم الرفيعة ، وفي القرن الثاني الهجري ظهر النقاد اللغويون وجمعوا الشعر القديم ووازنوا بين الشعراء وحكموا على أشعارهم وبيّنوا صفاتها الفنية ، وفي القرن الثالث الهجري ظهرت المؤلفات التي تهتم بتوثيق الشعر القديم الجاهلي والإسلامي لإثبات الصحيح منه وكشف المنحول وتقويم الشعراء وإجراء الموازنات بينهم ودراسة بعض الشعر دراسة تبين جيده من رديئة والأساليب القوية والضعيفة فيه وأسباب القوة والضعف ، أما في القرن الرابع الهجري فقد وُصِف النقد فيه بالنضج لظهور نقاد بارعين صنّفوا المؤلفات وعالجوا القضايا النقدية الأساسية مثل تعريف الشعر والخطابة ودراسة عناصرهما والعلاقة بينهما ، ودراسة بناء القصيدة ، والعناصر الجمالية في العمل الأدبي وأثر البديع في الشعر والنثر ، والموازنة بين الشعراء موازنة تفصيلية دقيقة ، وفي القرن الخامس الهجري أضاف النقاد أبحاثا دقيقة في الإعجاز القرآني ، وأسرار الجمال البياني ، وعمود الشعر العربي والسرقات الشعرية ، ثم تقلص النقد تدريجيا في ما بين القرن السادس الهجري والعصر الحديث إلى أدنى مستوى ، وحاول في العصر الحديث أن يستعيد قوته حيث بدأ بتطبيق المقاييس النقدية التي كانت سائدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين وازداد تقدمه بعد ذلك حتى صارت لـه مناهج كثيرة واتجاهات مختلفة منها ما يعتمد على الذوق المدرب والثقافة العربية الخالصة المتأثرة بالقران الكريم والحديث النبوي الشريف ، ومنها ما يجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية مع المحافظة على الأصالة العربية ، واتجاه تطغى عليه الثقافة الغربية تماما ، واتجاه رابع هو الاتجاه النقدي الإسلامي والأدب الإسلامي الخالص  (راجع النقد الأدبي للدكتور عبد الباسط عبد الرازق بدر ) وإزاء كل هذه المتغيرات لابد أن ننظر بدقة في واقعنا النقدي اليوم ؛ فبرغم  تحد ث الأدباء عن رقي النقد في العصر الحديث إلا أن الجمود بدأ يصيب الواقع النقدي بشيء من الفتور أو الضعف ،   وحينما ننظر في الكمية الهائلة من الأدباء والشعراء على مستوى الوطن العربي فسنجد الكثير : منهم المتألق المغمور ومنهم الضعيف المشهور ،ومعظمهم لا يعرفون أين يقفون بالضبط ؛ فهم بين مخدوع أو مهضوم ، وكلهم ينتظر تقويم الآخرين وإنصافهم ،سواء من النقاد أو من القراء ، إذ ليس من المعقول أن يكتب الشاعر أو الأديب لنفسه،  فأين النقد من هذه الظاهرة المأساوية؟ ، وأين المهتمون بالارتقاء بالظاهرة الأدبية؟ هل نحن اليوم أقل حظا وإمكانات من العصر الجاهلي أو الإسلامي أو القرن الرابع الهـــــــجري؟ لا أظن ذلك 0 إن التطور الهائل الذي وصلنا إليه في هذا العصر أكبر من أن يقارن بسابقه ، صحيح أن المنتديات الأدبية في وطننا العربي تؤدي أدوارا مشكورة  وكذلك بعض الصحف ، ولكنها تظل محصورة على الذين تخطوا حاجز الشهرة بشكل كبير  ، إضافة إلى حياد النقد ولزومه الصمت عدا قليل من الظهور ولكن على استحياء ، وعلى الرغم من سلبيات  النقد في العصر الجاهلي إلا أنه أحب إلينا من حال النقد اليوم فنحن اليوم لا نرى نقدا موضوعياـ ولكننا نرى نقدا تأثريا ـ إن صح التعبيرـ ، نقدا مداهنا للمشهورين من الأدباء والشعراء ـ مغلفا بالموضوعية ـ  يرى الصواب ما يرونه ، وبالمقابل نرى تجاهلا للكثير من الشعراء والأدباء المبتدئين وغير المبتدئين، فما ذنب المغمورين ؟ هل يجب أن يثيروا زوبعة أدبية كما فعل طه حسين قديما وكما فعل حيدر حيد رفي وليمة أعشاب البحر  حديثا، وغيرهم؛ ليشار إليهم بالبنان ؟ إن الأصوب من ذلك أن يقف النقاد لأي عمل أدبي وقفة موضوعية متناولين العمل الأدبي بالدراسة والتمحيص مع الالتزام بتطبيق القواعد العامة التي اتفق النقاد عليها ، وتحكيم الذوق والعقل والثقافة الفنية، والعامة وعدم التحيّز ، ولن تكون الفائدة مقصورة على صغار الأدباء أو الشعراء ، بل حتى على الكبار فحينما يعلم الأديب أو الشاعر  أن ثمة من يحاسبه على ما يقول فلا شك أنه سيعمل على التدقيق والتمحيص لما يكتب ،وأنا أجزم أن الشاعر أو الأديب إن لم يكتو بنار النقد فسيظل سلبيا متقوقعا على نفسه يحسَب نتاجه في الصدارة خصوصا إن كان من المتقاعسين وقليلي الاطلاع فهؤلاء قد يملكون الموهبة القوية ولكن ينقصهم التوجيه السليم ومَن غيرُ النقاد يمكن أن يحمل هذه المهمة الصعبة ، وإذا عدنا إلى العصر الجاهلي فما الذي كان يدفع الشاعر زهير بن أبي سلمى مثلا إلى أن تستغرق القصيدة عنده حولا كاملا لنظمها وإعدادها إعدادا جيدا سوى الخشية من النقاد الذين كانوا يتربصون بالشعراء بغية الوصول إلى الأجود؛ حتى حكم لـه بعد ذلك  الخليفةُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه  بأنه أشعر الشعراء؛ لأنه كان لا يعاضل في الكلام ( أي لاترى في شعره تداخلا ولا تعقيدا ) وكان يتجنب حوشي الشعر ( أي لا يقول إلا مــــــــا تألفه النفس )، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه 0 وعليه فما المانع أن ينصِب النقاد اليوم خياما من أمثال خيمة النابغة ـ التي كانت تضرب لـه في سوق عكاظ ـ لا بشكلها ولكن بمضمونها؛  ليحتكم الشعراء والأدباء إليهم فيما أشكل،  ولتساعد الأندية الأدبية  على ذلك ولتقف الصحف وقفة قوية ،  ولتُنشر الدعايات لذلك ،وليكن التنافس قويا بلا شكليات فارغة 0 لِم لا نعيد التجربة ؟ وهاهم الشعراء الشعبيون يمارسون النقد بطريقة غير مباشرة من خلال الحفلات التي يتقابل فيها شعراء الرد فيثبت كل منهم مكانته بالتنافس والحاضرون يمارسون عملية التحكيم تلقائيا دونما شكليات 0 إن ممارسة النقد الموضوعي من شأنها أن ترتقي بالأدب ، وبذلك يتم القضاء على الأعمال الهزيلة التي عمّت ساحتنا اليوم 0

 

كتبه أحمد بن ناصر الرازحي ، ونشرته مجلة الفيصل السعودية

Alrazhi2@hotmail.com

موقعي على الإنترنت 

https://alrazhi.tripod.com/

 

 

 

1